عندها تكلم إيلوفاتار وقال:
عظماء هم الأينور، والأعظم من بينهم هو ميلكور. لكن فليعلم هو وجميع الآينور أني أنا، إيلوفاتار، سأعرض عليكم تلكم الأشياء التي غنيتم، لتروا مـا صنعتم. وأنت ميلكور، سوف ترى أني أنا المعين الأسمى لكل لـــــحـن يعزف، وأن لا أحد يـــقدر على تغيير الموسيقى رغما عني، ومن يحاول ذلك، لن يفعل أكثر من أن يظهر أني الأقدر على ابتكار أروع الأشياء، أشياء لم تخطر على باله حتى هو.
عندها ارتاع
الآينور، وهم لم يفهموا بعد ما قيل لهم. أما ميلكور، فقد امتلأ بخزي تمخض عنه غضب
مكبوت. لكن إيلوفاتار ارتفع في وقار، مغادر الأماكن الجميلة التي أوجدها للآينور،
متبوعا بهم.
لكن عندما وصلوا
إلى الخواء قال لهم إيلوفاتار:
تأملوا موسيقاكم!
وأراهم رؤية،
معطيا إياهم منظرا يشاهدونه، بينما كان الأمر قبل ذلك استماع أصوات فقط. تجسد أمامهم عالم
جديد، قاحلا، متكورا وسط الخواء، موجودا في ذلك المكان لكنه لم يكن من طبيعته. وبينما
كانوا يشاهدون ويتعجبون، بدأ هذا العالم يريهم تاريخه، وبدا لهم أنه حي وينمو.
وبينما حدق
الآينور لمدة وهم صامتون، قال إيلوفاتار مرة أخرى:
تأملوا موسيقاكم! هذه هي أغنيتكم، وكل واحد فيكم سيجدها محتواة هنا، وسط هذاالتصميم الذي أريكم، كل الأشياء التي قد تبدو أنه ابتكرها أو أضافها. وأنت ميلكور، ستجد كل فكرة سرية في عقلك، وستدرك أنها ليست إلا جزءا من الكل، ورافدا من روافد المجد.
قال إيلوفاتار
الكثير من الأشياء في ذلك الحين، وبفضل حفظهم لكلماته والمعرفة التي
تحصل عليها كل
واحد منهم من خلال الموسيقى التي صنعها، أصبح الآينور يعرفون الكثير مما كان، وما هو
كائن، وما سوف يكون، وقليلة هي الأشياء التي لم يروا. لكم هناك أشياء لا يمكنهم رؤيتها، فرادى كانوا او مجتمعين. ذلك أن إيلوفاتار لم يكشف كل ما كان
مخبئا إلا لنفسه. وهكذا
كان في كل حقبة أمور جديدة وغير متنبئ بها لأنها مستقلة عن الماضي.
وبينما كانت هذه الرؤيا للعالم تتجسد أمامهم،
رأى الآينور أنه يحوي أشياء لم يفكروا فيها، ورأوا في دهشة
قدوم أبناء إيلوفاتار والمسكن الذي كان يعد لهم. وأدركوا أنهم أنفسهم، من خلال
جهدهم في الموسيقى، كانوا مشغولين في تحضيره. ولم يعلموا حينها أن الموسيقى لها
غرض آخر غير جمالها.
ذلك أنه لم يعلم عن أبناء إيلوفاتار أحد خلا
إيلوفاتار نفسه. وقد أتوا مع اللحن الثالث ولم يكونوا مع اللحن الذي قدمه في
البداية. وبذلك لم يكن للآينور دور في الإتيان بهم. ولهذا كلما نظروا إليهم كلما
زاد حبهم لهم، كونهم يختلفون عنهم، غرباء وأحرار. وفيهم رأوا تدبير إيلوفاتار ينعكس من جديد،
وزادت معرفتهم بقليل لحكمته التي كانت خلا ذلك خفية عنهم.
الآن أبناء إيلوفاتار هم "الجن"
و"البشر": الإبن البكر والتابعون. ووسط عظمة
العالم تلك، وشساعة ممراته وفضاءاته، ونيرانه الدائرة حول نفسها، إختار إيلوفاتار
مكانا لمسكنهم في أعماق الزمان ووسط النجوم التي لا تحصى. وقد يبدو هذا المسكن
شيئا لا يذكر لمن يرى عظمة الآينور دون حذقهم الرهيب: كمن يأخذ كل أرض آردا كأساس
لعمود يرتفع مخروطيا ليصل إلى قمة أدق من الإبرة، أو كمن يأخذ بالإعتبار سعة
العالم اللانهائية، والذي لا زال الآينور يشكلونه، دون الدقة المحكمة التي يشكلون
بها الأشياء هناك.
لكن عندما عاين الآينور هذا المسكن في رؤية، وشاهدوا أولاد إيلوفاتار
يقومون هناك، عندها انحنى الكثير من عظمائهم بأفكارهم ورغبتهم نحو ذلك المكان ،
وفي هذا كان ميلكور سيدهم حتى وإن كان في البداية أعظم الآينور الذين شاركوا في
الموسيقى. وقد زعم في البداية، حتى لنفسه، أنه يرغب في الذهاب هناك وأن يرتب كل
شيء من أجل مصلحة أبناء إيلوفاتار، وأن يتحكم في اختلاجات الحرارة والبرد التي مرت
من خلاله. لكن رغبته الحقيقية كانت إخضاع الجن والبشر له، حاسدا ما وعد إيلوفاتار
بإعطائهم، وتمنى لنفسه أن يكون له تابعون وخدم وأن يطلق عليه لقب
"لورد"، وأن يكون السيد فوق كل رغبة أخرى.
لكن الآينور الآخرين استوعبوا هذا المسكن
الكائن وسط الفضاءات الواسعة للعالم، والذي يطلق عليه الجن إسم آردا، الأرض.
فامتلأت قلوبهم بالغبطة وأعينهم التي كانت تراقب ألوانا كثيرة بالسرور. غير أنهم بسبب
هدير البحر، شعروا بهاجس شديد.
راقبوا الرياح والهواء والعناصر التي يكونت
منها آردا، من الحديد والصخر والفضة والذهب ومكونات كثيرة. غير أن أكثر ما أبهرهم
هو كل هذا الماء. وقد قال "الإلدار"* أن صدى موسيقى الأينور موجودة في
الماء أكثر من أي عنصر آخر في الأرض. وقد أصغى الكثير من أبناء إيلوفاتار دون
اكتفاء إلى موسيقى البحر، لكنهم رغم ذلك لم يعرفوا سبب استماعهم إليه.
والآن ركز الآينور الذي يطلق عليه الجن إسم
"أولمو" أفكاره على الماء. وبأعمق ما يكون، أخذ أوامره من موسيقى
إيلوفاتار. لكن "مانوِه"، وهو الأنبل بين الآينور، كان جل تفكره في
الهواء والرياح. وفكر "آولِه" بالأرض ومكوناتها. وقد منحه إيلوفاتار قوة
ومعرفة تكاد تضاهي تلك التي منحت لميلكور. لكن بهجة آوله وإعتزازه الحقيقي كان في
الإبتكار وفي الأشياء التي يبتكرها، ولم تكن في السيطرة والتملك ولا في ميدان
تفوقه وتسيده. لهذا فهو معطاء ولا يكنز شيئا، ولا يقلقه شيء، ودائما ما يمر إلى
شغل جديد.
وقد خاطب إيلوفاتار أولمو فقال له:
ألم تعلم أن في هذه المملكة الصغيرة في أعماق الزمان، قد شن ميلكور الحرب على قطاعك؟ لقد ظنه ذا برد قارس مفرط. ورغم ذلك، لا هو أفسد نافوراتك ولا عكر أحواضي الصافية. راقب الثلج وما يفعله الصقيع! ما أتى به ميلكور من الحر والنيران الملتهبة لم يكبح سعيك ولا أخضع موسيقى البحر. راقب أكثر الآن علو وتألق الغيوم والسحب المنتقلة من حال لآخر، وأنصت لهطول المطر على الأرض! ففي هذه الغيوم يقربك فنك أكثر من مانوه، صديقك الذي أحببت دائما.
فأجاب أولمو:
حقا! لقد أصبحت المياه أصفى مما تخيل قلبي، فلا أنا أدركت في أعمق أفكاري رقائق الثلج، ولا احتوت كل موسيقاي على هطول المطر. سأسعى لمانوه كي نصنع معا أنغاما أبدية تسرني!
وبهذا كان أولمو
ومانوه حلفاء من البداية. وقد خدما دائما وبإخلاص رغبة إيلوفاتار.
وبينما تحدث أولمو ولا زال الآينور يحدقون في
الرؤيا، أخفيت عن أبصارهم ليحل محلها ما بدا أنه شيء جديد على إدراكهم: الظلام
الذي لم يعرفوه إلا في خيالهم.
لكنهم أصبحوا مفتونين بجمال الرؤيا،
ومأخوذين بالكشف عن العالم الذي أتى إلى الوجود هناك. ولأن التاريخ كان ناقصا،
وعجلة الزمن لم تكتمل عندما أخفيت الرؤيا، فقد امتلأ تفكيرهم به. وقد قال البعض أن
الرؤيا توقفت قبل تحقق سلطان البشر وتلاشي الجن. وبهذا، ورغم اكتمال الموسيقى،
لم ير "الفالار"**العصور الأخيرة أونهاية العالم.
----------------------------------------------------
*الإلدار: الإسم العام للجن في الأرض الوسطى..
**الفالار:تلك القبيلة من الأينور الذين فضلوا دخول الأرض وتسييرها على البقاء عند إيلوفاتار..
**الفالار:تلك القبيلة من الأينور الذين فضلوا دخول الأرض وتسييرها على البقاء عند إيلوفاتار..