السبت، 19 مارس 2016

السيلماريليون 2





  عندها تكلم إيلوفاتار وقال:
عظماء هم الأينور، والأعظم من بينهم هو ميلكور. لكن فليعلم هو وجميع الآينور أني أنا، إيلوفاتار، سأعرض عليكم تلكم الأشياء التي غنيتم، لتروا مـا صنعتم. وأنت ميلكور، سوف ترى أني أنا المعين الأسمى لكل لـــــحـن  يعزف، وأن لا أحد يـــقدر على تغيير الموسيقى رغما عني، ومن يحاول ذلك، لن يفعل أكثر من أن يظهر أني الأقدر على ابتكار أروع الأشياء، أشياء لم تخطر على باله حتى هو.
     

   عندها ارتاع الآينور، وهم لم يفهموا بعد ما قيل لهم. أما ميلكور، فقد امتلأ بخزي تمخض عنه غضب مكبوت. لكن إيلوفاتار ارتفع في وقار، مغادر الأماكن الجميلة التي أوجدها للآينور، متبوعا بهم.

    لكن عندما وصلوا إلى الخواء قال لهم إيلوفاتار:
 تأملوا موسيقاكم!
                                     
  وأراهم رؤية، معطيا إياهم منظرا يشاهدونه، بينما كان الأمر قبل ذلك استماع أصوات فقط. تجسد أمامهم عالم جديد، قاحلا، متكورا وسط الخواء، موجودا في ذلك المكان لكنه لم يكن من طبيعته. وبينما كانوا يشاهدون ويتعجبون، بدأ هذا العالم يريهم تاريخه، وبدا لهم أنه حي وينمو.
وبينما حدق الآينور لمدة وهم صامتون، قال إيلوفاتار مرة أخرى:

تأملوا موسيقاكم! هذه هي أغنيتكم، وكل واحد فيكم سيجدها محتواة هنا، وسط هذاالتصميم الذي أريكم، كل الأشياء التي قد تبدو أنه ابتكرها أو أضافها. وأنت ميلكور، ستجد كل فكرة سرية في عقلك، وستدرك أنها ليست إلا جزءا من الكل، ورافدا من  روافد المجد.

   قال إيلوفاتار الكثير من الأشياء في ذلك الحين، وبفضل حفظهم لكلماته والمعرفة التي
تحصل عليها كل واحد منهم من خلال الموسيقى التي صنعها، أصبح الآينور يعرفون الكثير مما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون، وقليلة هي الأشياء التي لم يروا. لكم هناك أشياء لا يمكنهم رؤيتها، فرادى كانوا او مجتمعين. ذلك أن إيلوفاتار لم يكشف كل ما كان مخبئا إلا لنفسه. وهكذا كان في كل حقبة أمور جديدة وغير متنبئ بها لأنها مستقلة عن الماضي.

    وبينما كانت هذه الرؤيا للعالم تتجسد أمامهم، رأى الآينور أنه يحوي أشياء لم يفكروا فيها، ورأوا في دهشة قدوم أبناء إيلوفاتار والمسكن الذي كان يعد لهم. وأدركوا أنهم أنفسهم، من خلال جهدهم في الموسيقى، كانوا مشغولين في تحضيره. ولم يعلموا حينها أن الموسيقى لها غرض آخر غير جمالها.

    ذلك أنه لم يعلم عن أبناء إيلوفاتار أحد خلا إيلوفاتار نفسه. وقد أتوا مع اللحن الثالث ولم يكونوا مع اللحن الذي قدمه في البداية. وبذلك لم يكن للآينور دور في الإتيان بهم. ولهذا كلما نظروا إليهم كلما زاد حبهم لهم، كونهم يختلفون عنهم، غرباء وأحرار. وفيهم رأوا تدبير إيلوفاتار ينعكس من جديد، وزادت معرفتهم بقليل لحكمته التي كانت خلا ذلك خفية عنهم.

  الآن أبناء إيلوفاتار هم "الجن" و"البشر": الإبن البكر والتابعون. ووسط عظمة العالم تلك، وشساعة ممراته وفضاءاته، ونيرانه الدائرة حول نفسها، إختار إيلوفاتار مكانا لمسكنهم في أعماق الزمان ووسط النجوم التي لا تحصى. وقد يبدو هذا المسكن شيئا لا يذكر لمن يرى عظمة الآينور دون حذقهم الرهيب: كمن يأخذ كل أرض آردا كأساس لعمود يرتفع مخروطيا ليصل إلى قمة أدق من الإبرة، أو كمن يأخذ بالإعتبار سعة العالم اللانهائية، والذي لا زال الآينور يشكلونه، دون الدقة المحكمة التي يشكلون بها الأشياء هناك.

   لكن عندما عاين الآينور  هذا المسكن في رؤية، وشاهدوا أولاد إيلوفاتار يقومون هناك، عندها انحنى الكثير من عظمائهم بأفكارهم ورغبتهم نحو ذلك المكان ، وفي هذا كان ميلكور سيدهم حتى وإن كان في البداية أعظم الآينور الذين شاركوا في الموسيقى. وقد زعم في البداية، حتى لنفسه، أنه يرغب في الذهاب هناك وأن يرتب كل شيء من أجل مصلحة أبناء إيلوفاتار، وأن يتحكم في اختلاجات الحرارة والبرد التي مرت من خلاله. لكن رغبته الحقيقية كانت إخضاع الجن والبشر له، حاسدا ما وعد إيلوفاتار بإعطائهم، وتمنى لنفسه أن يكون له تابعون وخدم وأن يطلق عليه لقب "لورد"، وأن يكون السيد فوق كل رغبة أخرى.

   لكن الآينور الآخرين استوعبوا هذا المسكن الكائن وسط الفضاءات الواسعة للعالم، والذي يطلق عليه الجن إسم آردا، الأرض. فامتلأت قلوبهم بالغبطة وأعينهم التي كانت تراقب ألوانا كثيرة بالسرور. غير أنهم بسبب هدير البحر، شعروا بهاجس شديد.

   راقبوا الرياح والهواء والعناصر التي يكونت منها آردا، من الحديد والصخر والفضة والذهب ومكونات كثيرة. غير أن أكثر ما أبهرهم هو كل هذا الماء. وقد قال "الإلدار"* أن صدى موسيقى الأينور موجودة في الماء أكثر من أي عنصر آخر في الأرض. وقد أصغى الكثير من أبناء إيلوفاتار دون اكتفاء إلى موسيقى البحر، لكنهم رغم ذلك لم يعرفوا سبب استماعهم إليه.

   والآن ركز الآينور الذي يطلق عليه الجن إسم "أولمو" أفكاره على الماء. وبأعمق ما يكون، أخذ أوامره من موسيقى إيلوفاتار. لكن "مانوِه"، وهو الأنبل بين الآينور، كان جل تفكره في الهواء والرياح. وفكر "آولِه" بالأرض ومكوناتها. وقد منحه إيلوفاتار قوة ومعرفة تكاد تضاهي تلك التي منحت لميلكور. لكن بهجة آوله وإعتزازه الحقيقي كان في الإبتكار وفي الأشياء التي يبتكرها، ولم تكن في السيطرة والتملك ولا في ميدان تفوقه وتسيده. لهذا فهو معطاء ولا يكنز شيئا، ولا يقلقه شيء، ودائما ما يمر إلى شغل جديد.

   وقد خاطب إيلوفاتار أولمو فقال له:
 ألم تعلم أن في هذه المملكة الصغيرة في أعماق الزمان، قد شن ميلكور الحرب على قطاعك؟ لقد ظنه ذا برد قارس مفرط. ورغم ذلك، لا هو أفسد نافوراتك ولا عكر أحواضي الصافية. راقب الثلج وما يفعله الصقيع! ما أتى به ميلكور من الحر والنيران الملتهبة لم يكبح سعيك ولا أخضع موسيقى البحر. راقب أكثر الآن علو وتألق الغيوم والسحب المنتقلة من حال لآخر، وأنصت لهطول المطر على الأرض! ففي هذه الغيوم يقربك فنك أكثر من مانوه، صديقك الذي أحببت دائما.
        

فأجاب أولمو:

        حقا! لقد أصبحت المياه أصفى مما تخيل قلبي، فلا أنا أدركت في أعمق أفكاري رقائق الثلج، ولا احتوت كل موسيقاي على هطول المطر. سأسعى لمانوه كي نصنع معا أنغاما أبدية تسرني!
وبهذا كان أولمو ومانوه حلفاء من البداية. وقد خدما دائما وبإخلاص رغبة إيلوفاتار.


    وبينما تحدث أولمو ولا زال الآينور يحدقون في الرؤيا، أخفيت عن أبصارهم ليحل محلها ما بدا أنه شيء جديد على إدراكهم: الظلام الذي لم يعرفوه إلا في خيالهم.
  لكنهم أصبحوا مفتونين بجمال الرؤيا، ومأخوذين بالكشف عن العالم الذي أتى إلى الوجود هناك. ولأن التاريخ كان ناقصا، وعجلة الزمن لم تكتمل عندما أخفيت الرؤيا، فقد امتلأ تفكيرهم به. وقد قال البعض أن الرؤيا توقفت قبل تحقق سلطان البشر وتلاشي الجن. وبهذا، ورغم اكتمال الموسيقى، لم ير "الفالار"**العصور الأخيرة أونهاية العالم.
----------------------------------------------------
*الإلدار: الإسم العام للجن في الأرض الوسطى..
**الفالار:تلك القبيلة من الأينور الذين فضلوا دخول الأرض وتسييرها على البقاء عند إيلوفاتار..

الثلاثاء، 15 مارس 2016

السلماريليون (ترجمة عربية)




آينولينداله 

موسيقى الأينور*

   كان هناك "إرو"، الواحد**، والذي يطلق عليه في "آردا" إسم "إيلوفاتار".
وكان أول ما أوجد هم "الأينور"، الأفراد المقدسون، الذين كانوا نسل أفكاره وكانوا معه قبل إيجاد أي شيء. وقد خاطبهم، عارضا عليهم ألحانا من الموسيقى، وغنوا في حضرته فأسرّه ذلك.

      لكن ولوقت طويل غنوا منفردين، أو قلة معا بينما أصغى الباقون. ذلك أن كل واحد منهم لم يفهم من عقل 
"إيلوفاتار" إلا الجزء الذي انبثق منه. وكان فهمهم لبعضهم ينمو لكن ببطء. رغم ذلك، بقدر ما أنصتوا، بقدر ما تعمق فهمهم وازداد تآلفهم وانسجامهم.

   فات أن "إيلوفاتار" جمع "الأينور" وأعلن لهم لحنا هائلا، فاتحا أمامهم أشياء أعظم وأروع مما كشف لهم من قبل. عظمة بدايته وروعة النهاية أدهشت "الأينور" لينحنوا أمامه في صمت. عندئذ قال لهم "إيلوفاتار" : 
من اللحن الذي أعلنت لكم، أعزم الآن أن تصنعوا بانسجام معا، موسيقى عظيمة. وبما أني أوقدت فيكم بالشعلة السرمدية، ستعرضون قواكم في تزيين هذا اللحن، كل بأفكاره ووسائله إذا أراد. لكن أنا سأجلس وأصغي، وسيسرني أن من خلالكم، قد أفاق جمال عظيم في صورة أغنية.
  ثم بدأت أصوات "الأينور" في صقل لحن "إيلوفاتار" ليصبح موسيقى عظيمة، وكانت هذه الأصوات مثل قيثارات وأعواد، نايات وأبواق، كمنجات وأرغن، مثل جوقات لا تحصى تغني بالكلمات. وارتفع صوت أنغام متبادلة لا تنتهي، منسوجة بانسجام، حتى أنها تجاوزت مدى السمع إلى الأغوار السحيقة وإلى القمم السامقة، وملأت مقام "إيلوفاتار" حتى امتلأ بها وفاضت عنه، وعبرت الموسيقى وصداها إلى الخواء، ولم يكن خاويا.
  
   لم يصنع الأينور بعدها أي موسيقى مثلها، رغم أنه قد قيل أن موسيقى أعظم ستصنعها جوقة الأينور و"أبناء إيلوفاتار" في حضرته بعد نهاية الأيام. عندها ستعزف ألحان إيلوفاتار بشكلها الصحيح، وتأتي إلى الوجود في لحظة انطلاقها، ذلك أن كل فرد سيفهم سر إيلوفاتار من جهة الجزء الذي أتى منه، وسيطلع الكل على فهم الآخرين، وسيمنح إيلوفاتار أفكارهم النار السرية وهو جد راض عن ذلك. 
   
   لكن إيلوفاتار الآن جلس وأصغى، ولمدة طويلة استساغ ذلك، ذلك أنه لم يكن في الموسيقى أي عيوب. لكن ومع تقدم اللحن، خطر ببال "ميلكور" أن يخرج أمورا من خياله لم تتوافق ولحن إيلوفاتار، ذلك أنه أراد أن يزيد سلطة وهيمنة الدور الموكل إليه.

  إن أعظم مواهب القوة والمعرفة أعطيت لـميلكورمن بين جميع الأينور، وقد شارك إخوانه، علاوة على ذلك، بحصة في قدراتهم كذلك. وقد ذهب وحيدا ولمرات عديدة إلى الخواء باحثا عن الشعلة السرمدية. ذلك أن نار الرغبة كانت تتآكله من الداخل، الرغبة في خلق أشياء من عنده. وقد بدا له أن إيلوفاتار لم يأبه للخواء، ولم يصبر على فراغه. غير أنه لم يجد النار، كونها بحوزة إيلوفاتار. لكن وحدته جعلته يحمل أفكارا تختلف عن أفكار إخوانه.

  الآن أدخل ميلكور بعض هذه الأفكار في الموسيقى، فأحدثت من فورها ضجيجا من حوله، جاعلة الكثيرين ممن يغنون بجانبه خائبين ومشتتي الأفكار مما جعل الموسيقى متعثرة. لكن بدأ البعض بجعل موسيقاهم تساير موسيقاه بدلا من الأفكار التي تلقوها في البدء. عندها انتشر الضجيج الذي تسبب فيه ميلكور بصورة أكبر، فغرقت الأنغام التي سمعت من قبل في بحر من الأصوات العاصفة.

  لكن إيلوفاتار جلس مصغيا حتى بدت له عاصفة هادرة بالقرب من عرشه. كانت كأنها مياه سوداء تحارب بعضها البعض في غضب لانهائي لن يخف أبدا. عندها، قام إيلوفاتار، مبتسما فيما اعتقد الأينور، رافعا يده اليسرى ليبدأ لحن جديد خلال العاصفة، مشابها، ورغم ذلك غير مشابه، للّحن السابق، جامعا للقوة وموسوما بجمال جديد. لكن ضجيج ميلكور علا هادرا مقاوما له، ومرة أخرى كانت هناك حرب أصوات أعنف من قبل حتى أن الكثير من الأينور فزعوا وتوقفوا عن الغناء لينفرد ميلكوربذلك.

  عندها قام إيلوفاتار مرة أخرى، وبدا للأينور تجهم ملامحه، رفع يده اليمنى ثم تأملوا!...لحن ثالث يرتفع وسط الفوضى لم يكن مشابها للألحان الأخرى. بدا اللحن في البداية ناعما وحلوا. مجرد موجات من أصوات لطيفة في أنغام رقيقة لكن لا يمكن قمعها، وكانت توفر لنفسها القوة والعمق.

  وقد بدا أخيرا أن هناك نوعين من الموسيقى تعزفان في وقت واحد قبل جلوس إيلوفاتار، وقد كانتا مختلفتين تماما. إحداهما كانت عميقة ومستولية وجميلة، لكن بطيئة وتحتوي على حزن بالغ، وهو المعين الرئيس لجمالها. أما الأخرى فقد وصلت الآن إلى وحدة خاصة بها، لكنها كانت صاخبة وفارغة ومكررة بلا نهاية مع قليل من الإئتلاف، وكأنها تجمع مزعج للكثير من الأبواق التي تنفخ النزر اليسير من النوتات الموسيقية. حاولت هذه الموسيقى أن تغرق الأخرى في صوتها العنيف، لكن بدا أن أقوى نوتاتها قد انهزمت فحيكت في نسيج نمطها القاسي.

  في خضم هذا النزاع، حيث اهتز مقام إيلوفاتار وتسربت هزة خلال الصمت الراكد، قام إيلوفاتار للمرة الثالثة بملامح قاسية لايقدر أحد على تأملها. رفع كلتي يديه، وفي خط موسيقي واحد، أعمق من الهاوية، وأعلى من السماء، مخترقا مثل وميض عينه، توقفت الموسيقى.

يتبع.............
---------------------------------------------------------------------------------
*الأينور The Ainur الكلمة في الواقع هي جمع لكلمة Ainu لكن تجنبا للارتباك والتشويش في الترجمة سيتم استعمال الجمع فقط.

**الترجمة الصحيحة هنا لكلمة The One هي الأحد، لكن تجنبت ذلك لأسباب واضحة.

  

الاثنين، 7 مارس 2016

موسيقى كلاسيكية -1-

موسيقى كلاسيكية -1-


  إذا قمت بسؤال أي شخص ما هو الشيء الذي يعتقد أن الأوروبيين قد بلغوا فيه قمم الإبداع والعبقرية سيأتيك الجواب من أغلب الناس أن هذا الشيء هو العلم  !! وقد تكون هذه الأغلبية محقة نوعا ما، فمن سيدعي أن هناك أفضل منهم في هذا الميدان سيكون مطالبا بتوضيح موقفه وتقديم حججه، كذلك سيخاطر بالوقوف في وجه الحقيقة التاريخية والبداهة المشتركة بين البشر (Common Sense) وكذلك الأرقام والإحصاءات (ومن يقف في وجه الرياضيات يخسر حتما)..

  لكن الأوروبيين لم يساهموا في الميدان العلمي فحسب، بل قدموا أعظم أعمالهم في المجال الفني خصوصا..فلنفكر بالأمر:
 دافنتشي، مايكل أنجلو، فيفالدي، بوتيتشيلي، باخ، فان غوخ، موزارت، بيتهوفن، هايدن، شوبان، شوبير، شومان، مندلسون، تشايكوفسكي، فاغنر، شتراوس،...والقائمة تستمر.

  ولعلكم لاحظتم أن أغلب الأسماء السابقة هم موسيقيون وهذا هو موضوعنا..

لن نتحدث هنا عن الموسيقى وتاريخها والأمور التقنية المتعلقة بها، بل لن نتحدث إطلاقا، سنستمع فقط لهذه اللغة المفهومة بين جميع البشر على اختلاف ألسنتهم....هذه مجموعة من أعظم المقطوعات الكلاسيكية على الإطلاق: