السبت، 11 نوفمبر 2023

دستور الحوار


الغالب على حواراتنا اليومية التي تتخذ شكل المناظرة، أي تبني كل طرف لموقف مخالف للآخر ومحاولة اقناعه برأيه، سواء كانت في البيت أو المقهى؛ العمل أو على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي؛ بل حتى على شاشات التلفاز بين أشخاص يفترض في الغالب أن يكونوا ذوي وعي أعلى من الغوغاء؛ الغالب على هذه الحوارات أنها مجدبة، فسرعان ما تتحول إلى معركة تستخدم فيها عضلات اللسان بدل عضلات الساعد، وتستعمل فيها اللغة بدل الأسلحة البيضاء والنارية، ويكون الهدف فيها مشتركا بين المتحاورين والجنود المقاتلين على أرض معركة حقيقية: هزيمة الخصم وإذلاله والفوز بالحرب مهما كانت الوسيلة إلى ذلك.تلك هي خطيئة المتحاورين: محاولة إثبات صحة موقفهم مهما كلفهم الأمر، دون أي اعتبار للحقيقة أو التزام بأخلاق البحث وآداب الإختلاف، فيستحيل الحوار من محاولة لحل النزاع وتقريب وجهات النظر، و التعلم من الآخرين أو تعليمهم، إلى حوار طرشان وملاسنة تليق بالضرائر.لكن ما العمل من أجل تلافي مثل هذه الظاهرة؟ وما القواعد التي يجب أن يلتزم بها المتحاورون من أجل نقاش مثمر؟في الواقع، هناك قواعد أو مبادئ متى ما تم الإلتزام بها، تحسنت ظروف الحوار وارتفعت إمكانية وصوله إلى نهاية مثمرة. لذلك يجب على الجميع أن يتقيد بها ليس فقط خلال النقاش مع المخالفين، بل حتى خلال التفكير الشخصي حول مسألة ما. هذه القواعد ستضمن للمرء الوصول إلى أفضل رأي يمكن تبنيه، والحصول على أفضل الحجج التي تسانده، وتقديم أفضل الردود على حجج المخالف.هذه المبادئ هي:



1- مبدأ عدم العصمة (القابلية للخطأ) : (Fallibility Priciple)

  مبدئيا، ينبغي على كل طرف من الأطراف المختلفة في نقاش ما، أن يكون مقرا باحتمال أن يكون موقفه هو الموقف الخاطئ؛ أو أن تكون الحجة التي تسند موقفه هي الحجة الأضعف مقارنة مع الموقف الآخر أو المواقف الأخرى.

2- مبدأ السعي للوصول إلى الحقيقة : (Truth-Seeking Principle)

  على كل طرف أن يكون ملتزما، بشكل جاد، بالبحث عن الحقيقة أو عن الموقف الذي تسنده الحجة الأقوى. بناء على ذلك، على المرء أن يكون مستعدا لفحص الآراء المخالفة بروح موضوعية جادة، وأن يقبل أي حكمة يجدها عند المخالف، وأن يكون منفتحا على سماع حجة الخصم وعلى الإنصات إلى اعتراضاته على حججنا.



3- مبدأ الوضوح وعدم الإلتباس : (Clarity Principle) 

 عندما يقوم المرء بصياغة موقفه، عليه أن يحرص على أن يكون خاليا، قدر الإمكان، من أي التباس لغوي، وأن يحدد معالمه بحيث لا يكتنفه الكثير من الغموض، ولا يتم خلطه بسهولة مع مواقف أخرى.



4- مبدأ عبء الإثبات: (Burden-of-Proof Principle)

        على من يتبنى رأيا ما، أو يتخذ موقفا معينا، أن يكون قادرا على إثباته بالدليل والحجة عندما يُطلب منه ذلك. وعليه، يكون دليل الإثبات متقدما على دليل النفي، فلا يعتمد أحد في إثبات موقفه على عدم قدرة خصمه على نفيه، ففي الغالب تعتمد قدرة الخصم في النفي على نقد حجج الإثبات ذاتها؛ فإن غابت الأخيرة، كان غياب الأولى أَوْلَى.


(يستثنى من هذا الحقائق البدهية الضرورية، فإنكارها لزعم عدم وجود دليل مستقل عنها يثبتها يقود إلى السفسطة وهدم إمكانية المعرفة).





5- مبدأ الإحسان : (ِCharity Principle)

       عند إعادة صياغة حجة الخصم أو عرضها للنقد، يجب الحرص على التعبير عنها في أقوى نسخة ممكنة منها، متوافقة مع ما يعتقد أنه قصد صاحب الحجة في الأصل. وفي حال وجود شكوك بخصوص نيته أو بخصوص أي جزء تتضمنه تلك الحجة، يجب عندها على المخالف إحسان الظن بخصمه وإعطائه الفرصة لإعادة صياغة حجته إذا تطلب الأمر ذلك.



6- مبدأ الصحة الصورية : (Structural Principle)

 عند صياغة الحجة، يجب الحرص على خلوها من أخطاء في بنائها الصوري، مثل الإعتماد على مقدمات تناقض بعضها البعض، أو تتناقض مع النتيجة، أو مقدمات تفترض صحة النتيجة سواءا بصورة ظاهرة أو مبطنة (المصادرة على المطلوب). أيضا، يجب تجنب استعمال أي نوع من القياس الباطل. (لتلبية شروط هذا المبدأ بصورة أكثر فعالية، يجب على المرء أن يحوز على معرفة لا بأس بها حول المغالطات الصورية، مثل: المصادرة على المطلوب، الدور، إثبات التالي، إنكار المقدم، عدم استغراق الحد الأوسط...إلخ) 





7- مبدأ الإرتباط : (Relevance Principle) 


على المرء الحرص خلال الحوار على البقاء في صلب الموضوع، ولذلك ينبغي عليه ألاّ يقدم سوى أدلة تقود إلى إثبات صحة موقفه أو خطأ موقف خصمه، أو الكلام فيما له صلة بذلك. وبناء عليه، ينبغي على المرء أن يحرص على عدم التشعيب والمشاغبة، وفتح مواضيع أخرى غير ذات صلة مباشرة بموضوع الحوار. 





8- مبدأ الإستحسان : (Acceptability Principle)


 الأدلة والحجج المقدمة يجب أن تكون من جنس تلك التي يقبلها عادة أشخاص عاقلون وناضجون، فيجب أن تكون مبنية على مقدمات بدهية أو مقدمات نظرية هي محل قبول وإجماع عند الفئة المعنية، أو على الأقل أن لا تكون الإعتراضات الموجهة إليها ذات بال، ولا تكون محل نزاع كبير بين أهل الاختصاص، أو بين صاحب الحجة والمخالفين، وكذلك أن تكون خالية من الالتباس والغموض اللغويين، أي أن تكون محكمة من الناحية اللغوية.





9- مبدأ الكفاية : (Sufficiency Principle)


  على صاحب الموقف أن يحرص على استوفائه للشروط المذكورة سابقا، خصوصا في المبدأين 7 و 8، وأن يتوفر على حجج وأدلة تكون كافية، سواء من ناحية العدد أو من ناحية القوة الدلالية على صحة موقفه أو بطلان موقف الخصم. 





10- مبدأ الرد : (Rebuttal Principle)


 لا ينبغي الاكتفاء فقط بتقديم الحجج الداعمة لموقف ما أو المعترضة على موقف آخر، بل يجب ارفاقها بردود قوية على أهم ما يمكن توقعه من اعتراضات المخالفين عليها.





11- مبدأ التوقف عن الحكم : (Suspension-of-Judgment Principle) 


     في حال عدم حيازة أي طرف لحجج مقنعة، أو في حال توفر كل الأطراف على حجج بنفس القوة، ينبغي على المرء حينها أن يتوقف عن إصدار أي حكم حول الموضوع. أما إذا تطلبت الظروف الواقعية إتخاذ موقف، عندها، ينبغي الموازنة بين المنافع والمضار المتأتية من اتخاذ أي موقف أو عدم اتخاذ أي موقف، ثم إصدار قرار بناء على ذلك.

12- مبدأ الحسم : (The Resolution Principle)

      يعتبر النقاش محسوما ومنتهيا إذا قدم أحد الأطراف حجة تدعم موقفه، بحيث تكون هذه الحجة سليمة (valid) في بنائها الصوري، وتتكون من مقدمات ذات صلة بالموضوع، وتستوفي شروط الاستحسان المذكورة، بالإضافة إلى كونها في مجموعها كافية لتبرير النتيجة النهائية (موقف صاحب الحجة)، وأن تتوفر الحجة أيضا على ردود كافية لدفع أهم اعتراضات ونقود المخالفين.